الاثنين، ١٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
مقالات

مغارة الفقمة في عمشيت: كنزٌ طبيعيّ مهدّد… ودولةٌ مدعوّة إلى حماية الحقّ العام

سماح مطر
مغارة الفقمة في عمشيت: كنزٌ طبيعيّ مهدّد… ودولةٌ مدعوّة إلى حماية الحقّ العام
مغارة الفقمة في عمشيت: كنزٌ طبيعيّ مهدّد… ودولةٌ مدعوّة إلى حماية الحقّ العام

الساحل الشمالي لعمشيت، تنتصب صخور بحرية تنحتها الأمواج منذ آلاف السنين. في قلب هذا المشهد الأزرق، تتخفّى مغارة الفقمة، موقع فريد من نوعه يحتضن واحداً من أندر الكائنات البحرية في العالم: فقمة الراهب المتوسّطية.


هذه المغارة ليست مَعلماً طبيعياً عادياً، بل موئلاً نادراً لكائن يحتاج إلى صمت البحر وعزلته، وإلى ساحلٍ غير ملوّث وغير مُعتدى عليه. وما تواجهه اليوم من أخطار، يضع لبنان أمام سؤال واضح: هل نحن دولة تحمي كنوزها، أم دولة تتفرّج على ضياعها؟

فقمة لا يشبه وجودها أي وجود

فقمة الراهب ليست حيواناً شائعاً يمرّ عابرًا قرب الشاطئ. إنّها من أكثر الثدييات البحرية عرضة للانقراض عالميًا، وعددها المتبقي في المتوسط محدود للغاية. تحتاج هذه الفقمة إلى أماكن منعزلة، ومغارات بحرية آمنة لتربية صغارها.


وجودها في عمشيت يُعدّ إشارة بيئية نادرة تدل على أن الشاطئ اللبناني — رغم التلوث والبناء العشوائي — لا يزال يملك قدرة على احتضان الحياة البرية إذا تُركت في بيئتها الطبيعية.

الخطر الداهم: أعمال لا تراعي حساسية الموقع

في الأسابيع الأخيرة، شهد محيط المغارة أعمالًا وحفريات أثارت خوف السكان والمهتمين بالبيئة. أي نشاط من هذا النوع قرب موئل حساس قد يزعزع استقرار الصخور، ويُحدث ضجيجًا وتشويشًا يطرد الفقمات نهائيًا.


لا تحتاج هذه الكائنات إلى ضربة مباشرة لتُفقد موطنها؛ يكفي تغيّر بسيط في شكل المغارة أو في هدوئها كي تهجر المكان بلا عودة.

الأهالي والناشطون لم يعترضوا لغاية الاعتراض، بل لأنهم يعرفون أن خسارة موقع كهذا ليست خسارة محلية، بل خسارة بيئية وطنية لا تُعوّض.

القضاء والدولة: مسؤولية لا يمكن التهرب منها

حماية مغارة الفقمة ليست قضية سياسية ولا خلافاً عقارياً. إنّها قضية ملك عام، وواجب يقع على عاتق الدولة بمختلف مؤسساتها.


المطلوب اليوم ليس بيانات تضامن، بل تطبيق فعلي للقوانين التي تمنع التعدي على الشاطئ وعلى الأنظمة البيئية الحساسة.

كل خطوة تتخذها السلطة القضائية لحماية هذا الموقع تُعيد للبنانيين بعضاً من الثقة المفقودة بالدولة.


وحين يقرّر القضاء وقف أي أعمال قد تُهدد المغارة، فهو لا يحمي نوعاً حيوانيًا فقط، بل يحمي فكرة العدالة نفسها، ويثبت أن القانون ليس وجهة نظر.

نحو حماية رسمية وإدراج عالمي

لكي تأخذ هذه القضية مسارها الصحيح، لا بد من رؤية استراتيجية تتضمن:

. تحويل محيط المغارة إلى منطقة محمية بحرية تُمنع فيها الأنشطة التي قد تُلحق ضرراً بالنظام البيولوجي.
. تكليف خبراء بإجراء مسح علمي دائم لتوثيق وجود الفقمة ومتابعة أي تغيّر في سلوكها أو بيئتها.
. التعاون مع منظمات دولية متخصّصة لدعم حماية النوع وضمان بقاء موائله.


. السعي إلى تسجيل هذا الموقع ضمن لائحة المعالم الطبيعية ذات الأهمية العالمية، ما يمنحه حماية دولية إضافة إلى الحماية الوطنية.

هذه الخطوات ليست رفاهية، بل ضرورة، لأن أي تراجع اليوم يعني نهاية أحد آخر الموائل الطبيعية المتبقية لهذا النوع في شرق المتوسط.

صرخة من البحر… وواجب على الدولة

اللبنانيون لا يطلبون المستحيل. يريدون فقط دولة تعترف أن ثرواتها الطبيعية ليست ملكاً خاصاً، وأن حماية مغارة واحدة قد تحفظ تاريخاً طبيعياً يمتد آلاف السنين.


يريدون دولة تقف أخيرًا في صف لبنان، لا في صف من ينتهكون أرضه وبحره.

مغارة الفقمة ليست حجراً ولا كهفاً عابراً.


إنّها شهادة على ما يمكن أن يبقى من جمال لبنان إذا أرادت الدولة أن تقوم بواجبها.


والمطلوب اليوم بسيط في جوهره: إنصاف هذا المكان… ليشعر اللبنانيون للمرّة الأولى أن دولتهم أنصفتهم أيضاً.