"هيبة الوعي في وجه التنمّر"

إنّ التنمّر ليس مجرّد كلمة تتردّد في قاعات التدريس، بل هو سلوكٌ يجرحُ الروح قبل أن يمسّ الجسد. يبدأ همساً، نظرةً، تعليقاً ساخراً، ثم يكبر ليصير ظلّاً يلاحق الطفل، ينقص من ثقته بنفسه ويُضعف علاقته بالعالم. والمؤسسة التربوية، بما تحمله من رسالة إنسانية، لا يمكنها أن تغضّ الطرف عن هذا الخطر الصامت.
فالصفّ ليس مقاعدَ متجاورة فحسب، بل هو مجتمعٌ صغير، تتجاور فيه شخصيّات مختلفة، خلفيّات متنوّعة، طباعٌ، قصص، أحلام، وخيبات. وفي هذا التنوّع تكمن نعمة التربية، شرط أن يتعلّم الأطفال معنى الاختلاف قبل أن يُطالَبوا بالنجاح.
إنّ الطفل الذي يُدرَّب على احترام زميله، مهما كان شكله أو لغته أو قدراته، يصبح إنساناً قادراً على حماية غيره من الظلم، لا مشاركاً فيه.
وتقع على عاتق المربّي مسؤوليةٌ مضاعفة:
أن يراقب، أن يُصغي، أن يتدخّل عند الحاجة، وأن يبني من الصفّ مساحةَ أمانٍ لا مكان فيها للسخرية أو العزل. فالطفل الذي يتعرّض للتنمّر يحتاج إلى يدٍ تطمئنه، وإلى كلمة تشبه ضوء الصباح، تقول له: "أنت مهمّ… أنت مرئيّ… مكانك محفوظ".
كذلك يحتاج الطفل الذي يُمارس التنمّر إلى تربية لا إلى عقابٍ فقط؛ إلى فهمٍ لِما وراء سلوكه، وإلى من يفتح له باب التعاطف بدل أن يغلقه بوجهه.
أما تقبّل الآخر فهو الجسر الذي يعبر عليه الجميع. هو قيمـة تزرعها المدرسة بالقدوة قبل الدرس، بالأفعال قبل الكلمات. حين يرى الطفل معلّمته تُصغي باحترام، يتعلّم. حين يلمس عدالة التعامل، يفهم. وحين يشعر بأنّ اختلافه ليس عيباً بل بصمة، يزهر قلبه.
إنّ مؤسسة تربوية تُحسن بناء هذا الوعي، تخلق جيلاً لا يخاف من الآخر، بل يحتضنه. جيلاً يفهم أنّ المجتمع لا يُبنى بالتشابه، بل بالاختلاف المتناغم. جيلاً يعرف أنّ الكلمة قد تُنقذ كما قد تُؤذي، وأنّ الكرامة ليست مفهوماً مجرّداً بل حقّاً يوميّاً.
يبقى التنمّر تحدّياً حقيقياً، لكنّ مواجهته تبدأ من الصفّ، من نظرة المربّي، ومن وعي الأطفال بمعنى الاختلاف. وعندما تنجح المؤسسة التربوية في تحويل الاختلاف إلى قيمة، والتربية إلى رسالة، يصبح الطفل قادراً على أن ينظر إلى زميله لا كمرآة تختلف عنه، بل كإنسانٍ يكمّله… وهكذا تُشفى المدرسة من جرح التنمّر، وتُثمرُ قلوباً تعرف كيف تحبّ بلا خوف، وكيف تتقبّل بلا شروط.
