الخميس، ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
مقالات

النواب والمرشحون… سباق الإغراء قبل موسم الاقتراع

دكتور فاروق غانم خداج
النواب والمرشحون… سباق الإغراء قبل موسم الاقتراع
النواب والمرشحون… سباق الإغراء قبل موسم الاقتراع

فاروق غانم خداج


كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

مع كل استحقاق انتخابي، يستيقظ المشهد السياسي اللبناني كأنه يفيق من سباتٍ طويل على موعدٍ يعرفه الناس جيدًا: حركة مفاجئة للنواب، جولات حثيثة للمرشحين، ووعود تتساقط كالمطر فوق رؤوس الناخبين. فجأة يتحوّل المسؤول الغائب إلى شخصية حاضرة، والمرشح الهادئ إلى خطيب مفوّه، والمنطقة المنسيّة إلى مساحة عامرة بالزيارات والمساعدات. ومع اقتراب الموعد، تُفتح دفاتر العلاقات القديمة، وتبدأ لعبة الإغراء السياسي في بلدٍ لا تزال السياسة فيه قائمة على الذاكرة القصيرة والحاجة الطويلة.

يتصاعد إيقاع التحرك قبل الانتخابات بأسابيع قليلة، كأنّ الوطن لم يحتج شيئًا طوال السنوات الماضية. فجأة تُعبد طريق، وتُصلّح شبكة كهرباء، وتُذلّل عقبة إدارية عانت منها عائلات لأعوام. كل ذلك يُقدَّم تحت عنوان "استنهاض القواعد"، وهي عبارة تُخفي خلفها حقيقة مرّة: غياب الدولة كمؤسسة وحضور الأفراد كبديلٍ هش، غياب البرامج وحضور الوعود، غياب التخطيط وحضور العاطفة.

النواب الذين غابوا سنوات عن هموم الناس يعودون فجأة إلى الشوارع. يلتقطون الصور مع الأطفال، يقفون أمام البيوت، ويُعيدون تشغيل هواتفهم التي كانت محصّنة بطبقات من السكرتاريا. بعضهم يحاول استعادة ثقة فقدها، وبعضهم يستند إلى إرث حزبي أو عائلي. لكن الثابت أنّ الجميع يسعى لإعادة تثبيت نفسه في مقعدٍ بات جزءًا من هويته الشخصية.

أما المرشحون الجدد، فيسيرون في حقل ألغام المنظومة السياسية. يدخلون السباق بوجه نظيف وخطاب تغييري، لكنهم سرعان ما يكتشفون أنّ الكفاءة وحدها لا تكفي في ساحة تتحكم بها الولاءات والعصبيات. لذلك يلجأ كثيرون منهم إلى الأساليب نفسها: زيارات ميدانية تُبث مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حملات على إنستغرام وتيك توك، مجموعات واتساب تروّج لكل خطوة، ومقاطع قصيرة تُظهرهم في لحظات "عفوية" محسوبة بدقة. لقد أصبحت الانتخابات اليوم لعبة صور وفيديوهات بقدر ما هي لعبة شعارات.

وفي قلب هذه المعركة، يظهر الناخب كهدف رئيسي. يُعامل كرقمٍ في لعبة حسابية، لا كمواطنٍ له كرامته وحقوقه. يستدرج المرشحون عاطفته بوعود لا تُعدّ ولا تُحصى: "سنؤمّن الكهرباء"، "سنحارب الفساد"، "سنستعيد الدولة"، وغيرها من العبارات التي سمعها اللبنانيون حتى فقدت معناها. وفي ظل الأزمة الاقتصادية، تتحوّل أصغر مساعدة إلى ما يشبه الخلاص المؤقت. هنا يطلّ مفهوم الزبائنية (Clientelism) بوجهه العاري: حيث يُقايض الناخب صوته مقابل خدمة أو منفعة، ويتحوّل التصويت من حق ديمقراطي إلى سلعة في سوقٍ موسمي.

هذه الظاهرة ليست لبنانية فقط، لكنّ خصوصية المشهد اللبناني تجعلها أكثر فجاجة. ففي الدول ذات الأنظمة الراسخة، تقوم الحملات على برامج واضحة، وفرق عمل منظمة، ونقاشات حول الاقتصاد والصحة والبيئة. أما في لبنان، فتتحوّل الانتخابات إلى تظاهرة فردية: مرشح يحمل نفسه على كتفيه، يطرق الأبواب، ويعرض "بضاعته" في معرض مؤقت ينتهي فور إقفال صناديق الاقتراع.

ورغم ذلك، لا ينعدم الأمل. فهناك فعلاً مرشحون يمتلكون مشاريع تنموية حقيقية ورؤى إصلاحية، لكنهم يصطدمون بثقافة راسخة تُقدّم الولاء على الكفاءة، والحاجة على البرنامج. ومع ذلك، يتنامى وعي شبابي يرفض هذه القواعد القديمة، وإن ببطء. وهذا الوعي يشكّل التحدي الحقيقي أمام العملية الانتخابية: هل يتحول الناخب من متلقٍّ إلى محاسب؟ ومن تابعٍ إلى صاحب قرار؟

ومع أن الحركة الانتخابية تبدو صاخبة ومليئة بالوعود، إلا أنها تكشف مكامن الخلل: التنمية ليست رؤية طويلة الأمد، بل هبّات انتخابية. الدولة ليست مؤسسة تخطط، بل أفراد يستعيدون أدوارهم عند كل موسم. والناخب، رغم تعبه وغضبه، لا يزال متردّدًا بين حاجته الآنية وحلمه بدولة حقيقية.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل سيبقى الناخب لقمةً سهلة في موسم الإغراء السياسي؟
أم سيكسر الحلقة ويُعيد للاقتراع معناه الحقيقي؟

الجواب لن يأتي من السياسيين، بل من وعي الناس…
وهو وعي ينمو ببطء، لكنه ينمو.